فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم}
{لن نؤمن لكم} علة للنهي عن الاعتذار، لأنّ عرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به، فإذا علم أنه مكذب في اعتذاره كفَّ عنه.
{قد نبأنا الله من أخباركم} علة لانتفاء التصديق، لأنه تعالى إذا أخبر الرسول والمؤمنين بما انطوت عليه سرائرهم من الشر والفساد، لم يمكن تصديقهم في معاذيرهم.
قال ابن عطية: والإشارة بقوله: {قد نبأنا الله من أخباركم} إلى قوله: {ما زادوكم إلا خبالًا ولأوضعوا خلالكم}، ونحو هذا.
ونبأ هنا تعدّت إلى مفعولين كعرف، نحو قوله: {من أنبأك هذا} والثاني هو {من أخباركم} أي: جملة من أخباركم، وعلى رأى أبي الحسن الأخفش تكون من زائدة أي أخباركم.
وقيل: نبأ بمعنى أعلم المتعدية إلى ثلاثة، والثالث محذوف اختصارًا لدلالة الكلام عليه أي: من أخباركم كذبًا أو نحوه.
{وسيرى الله} توعد أي: سيراه في حال وجوده، فيقع الجزاء منه عليه إنْ خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
وقال الزمخشري: {وسيرى الله عملكم} أتنيبون أم تثبتون على الكفر، ثم تردون إشارة إلى البعث من القبور والتنبؤ بأعمالهم عبارة عن جزائهم عليها.
قال ابن عيسى: وسيرى لجعله من الظهور بمنزلة ما يرى، ثم يجازى عليه.
وقيل: كانوا يظهرون للرسول عند تقريرهم معاذيرهم حبًا وشفقة فقيل: وسيرى الله عملكم هل يبقون على ذلك أو لا يبقون؟ والغيب والشهادة هما جامعان لأعمال العبد لا يخلو منهما.
وفي ذلك دلالة على أنه مطلع على ضمائرهم كاطلاعه على ظواهرهم، لا تفاوت عنده في ذلك. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} استئنافٌ لبيان ما يتصدَّوْن له عند القفولِ إليهم. روي أنهم كانوا بضعةً وثمانين رجلًا فلما رجع عليه السلام إليهم جاؤوا يعتذرون إليه بالباطل والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ فإنهم كانوا يعتذرون إليهم أيضًا لا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط أي يعتذرون إليكم في التخلف {إِذَا رَجَعْتُمْ} من الغزو منتهين {إِلَيْهِمُ} وإنما لم يقل إلى المدينة إيذانًا بأن مدارَ الاعتذار هو الرجوعُ إليهم لا إلى الرجوع إلى المدينة فلعل منهم مَنْ بادر إلى الاعتذار قبل الرجوعِ إليها {قُلْ} تخصيصُ هذا الخطابِ برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تعميمِه فيما سبق لأصحابه أيضًا لِما أن الجوابَ وظيفتُه عليه السلام، وأما اعتذارُهم فكان شاملًا للمسلمين شمولَ الرجوعِ لهم {لاَ تَعْتَذِرُواْ} أي لا تفعلوا الاعتذارَ كقوله تعالى: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} أو لا تعتذروا بما عندكم من المعاذير، وأما التعرُّضُ لعنوان كذبها فلا يساعُده قوله تعالى: {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} أي لن نصدِّقَكم في ذلك أبدًا فإنه استئنافٌ تعليليٌّ للنهي مبنيٌّ على سؤال نشأ من قِبَلهم متفرّعٌ على ادعاء الصّدقِ في الاعتذار كأنهم قالوا: لمَ نعتذر؟ فقيل: لأنا لا نصدقكم أبدًا فيكون عبثًا إذ لا يترتب عليه غرضُ المعتذِر وقوله عز وجل: {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} تعليلٌ لانتفاء التصديقِ أي أُعلِمْنا بالوحي بعضَ أخباركم المنافيةِ للتصديق مما باشرتموه من الشر والفساد وأضمرتموه في ضمائركم وهيأتموه للإبراز في معرِض الاعتذارِ من الأكاذيب، وجمعُ ضميرِ المتكلم في الموضعين للمبالغة في حسم أطماعِهم من التصديق رأسًا ببيان عدمِ رواج اعتذارِهم عند أحدٍ من المؤمنين أصلًا فإن تصديقَ البعض لهم ربما يطمعهم في تصديق الرسولِ صلى الله عليه وسلم أيضًا بواسطة المصدِّقين وللإيذان بأن افتضاحَهم بين المؤمنين كافة.
{وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} فيما سيأتي أتُنيبون إليه تعالى مما أنتم فيه من النفاق أم تثبُتون وكأنه استتابةٌ وإمهالٌ للتوبة، وتقديمُ مفعول الرؤية على ما عطف على فاعله من قوله تعالى: {وَرَسُولُهُ} للإيذان باختلاف حالِ الرؤيتين وتفاوتِهما وللإشعار بأن مدارَ الوعيد هو علمُه عز وجل بأعمالهم {ثُمَّ تُرَدُّونَ} يوم القيامة {إلى عالم الغيب والشهادة} للجزاء بما ظهر منكم من الأعمال، ووضعُ المُظهرِ موضعَ المضمرِ لتشديد الوعيدِ فإن علمَه سبحانه وتعالى بجميع أعمالِهم الظاهرةِ والباطنةِ وإحاطتَه بأحوالهم البارزةِ والكامنةِ مما يوجب الزجرَ العظيم {فَيُنَبّئُكُمْ} عند ردِّكم إليه ووقوفِكم بين يديه {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي بما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من الأعمال السيئةِ السابقةِ واللاحقة، على أن ما موصولةٌ والعائدُ إليها محذوفٌ أو بعملكم على أنها مصدريةٌ، والمرادُ بالتنبئة بذلك المجازاةُ به، وإيثارُها عليها لمراعاة ما سبق من قوله تعالى: {قَدْ نَبَّأَنَا الله} الخ، فإن المنبأَ به الأخبارُ المتعلِّقةُ بأعمالهم وللإيذان بأنهم ما كانوا عالمين في الدنيا بحقيقة أعمالِهم وإنما يعلمونها يومئذ. اهـ.

.قال الألوسي:

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} بيان لما يتصدون له عند الرجوع إليهم، والخطاب قيل للنبي صلى الله عليه وسلم، والجمع للتعظيم، والأولى أن يكون له عليه الصلاة والسلام ولأصحابه لأنهم كانوا يعتذرون للجميع أي يعتذرون إليكم في التخلف {إِذَا رَجَعْتُمْ} من الغزو منتهين {إِلَيْهِمُ} وإنما لم يقل سبحانه إلى المدينة إيذانًا بأن مدار الاعتذار هو الرجوع إليهم لا الرجوع إلى المدينة فلعل منهم من بادر إلى الاعتذار قبل الرجوع إليها {قُلْ} خطاب له صلى الله عليه وسلم، وخص بذلك لما أن الجواب وظيفته عليه الصلاة والسلام {لاَ تَعْتَذِرُواْ} أي لا تفعلوا الاعتذار أو لا تعتذروا بما عندكم من المعاذير {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} استئناف لبيان موجب النهي، وقوله: {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ منْ أَخْبَاركُمْ} استئناف لبيان موجب النفي كأنه قيل: لم نهيتمونا عن الاعتذار؟ فقيل: لأنا لم نصدقكم في عذركم فيكون عبثًا فقيل: لم لن تصدقونا؟ فقيل: لأن الله تعالى قد أنبأنا بالوحي بما في ضمائركم من الشر والفساد.
و{نَبَأَ} عند جمع متعدية إلى مفعولين الأول الضمير والثاني {مِنْ أَخْبَارِكُمْ} أما لأنه صفة المفعول الثاني، والتقدير جملة من أخباركم أو لأنه بمعنى بعض أخباركم، وليست {مِنْ} زائدة على مذهب الأخفش من زيادتها في الإيجاب.
وقال بعضهم: إنها متعدية لثلاثة {وَمِنْ أخباركم} ساد مسد مفعولين لأنه بمعنى إنكم كذا وكذا أو المفعول الثالث محذوف أي واقعًا مثلًا، وتعقب بأن السد المذكور بعيد، وحذف المفعول الثالث إذا ذكر المفعول الثاني في هذا الباب خطأ أو ضعيف، ومعنى {نَبَّأَنَا} على الأول عرفنا كما قيل وعلى الثاني أعلمنا، وقيل: معناه خبرنا، و{مِنْ} بمعنى عن وليس بشيء، وجمع ضمير المتكلم في الموضعين للمبالغة في حسم اطماع المنافقين المعتذرين رأسًا ببيان عدم رواج اعتذارهم عند أحد من المؤمنين أصلًا فإن تصديق البعض لهم ربما يطمعهم في تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام أيضًا وللإيذان بافتضاحهم بين المؤمنين كافة وتعدية {نُؤْمِنُ} باللام مر بيانها {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} أي سيعلمه سبحانه علمًا يتعلق به الجزاء فالرؤية علمية، والمفعول الثاني محذوف أي أتنيبون عما أنتم فيه من النفاق أم تثبتون عليه، وكأنه لمكان السين المفيدة للتنفيس استتابة وإمهال للتوبة، وتقديم مفعول الرؤية على الفاعل من قوله سبحانه: {وَرَسُولُهُ} للإيذان باختلاف حال الرؤيتين وتفاوتهما وللإشعار بأن مدار الوعيد هو علمه عز وجل بأعمالهم.
{ثُمَّ تُرَدُّونَ} يوم القيامة {إلى عالم الغيب والشهادة} للجزاء بما ظهر منكم من الأعمال، ووضع الوصف موضع الضمير لتشديد الوعيد فإن علمه سبحانه بجميع أعمالهم الظاهرة والباطنة وإحاطته بأحوالهم البارزة والكامنة مما يوجب الزجر العظيم، وتقديم الغيب على الشهادة قيل: لتحقيق أن نسبة علمه تعالى المحيط إلى سائر الأشياء السر والعلن واحدة على أبلغ وجه وآكده، كيف لا وعلمه تعالى بمعلوماته منزه عن أن يكون بطريق حصول الصورة بل وجود كل شيء وتحققه في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى، وفي هذا المعنى لايختلف الحال بين الأمور البارزة والكامنة انتهى.
ولا يخفى عليك أن هذا قول بكون علمه سبحانه بالأشياء حضوريًا لا حصوليًا.
وقد اعترضوا عليه بشمول علمه جل وعلا الممتنعات والمعدومات الممكنة والعلم الحضوري يختص بالموجودات العينية لأنه حضور المعلوم بصورته العينية عند العالم فكيف لا يختلف الحال فيه بين الأمور البارزة والكامنة مع أن الكامنة تشمل المعدومات الممكنة والممتنعة، ولا يتصور فيها التحقق في نفسها حتى يكون علمًا له تعالى كذا قيل وفيه نظر، وتحقيق علم الواجب سبحانه بالأشياء من المباحث المشكلة والمسائل المعضلة التي كم تحيرت فيها أفهام وزلت من العلماء الاعلام أقدام، ولعل النبوة إن شاء الله تعالى تفضي إلى تحقيق ذلك {فَيُنَبّئُكُمْ} عند ردكم إليه سبحانه ووقوفكم بين يديه {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي بما تعملونه على الاستمرار في الدنيا من الأعمال السيئة السابقة واللاحقة على أن {مَا} موصولة أو بعملأبي كم المستمر على أن {مَا} مصدرية، والمراد من التنبئة بذلك المجازاة عليه، وإيثارها عليها لمراعاة ما سبق من قوله تعالى: {قَدْ نَبَّأَنَا الله} إلخ وللإيذان بأنهم ما كانوا عالمين في الدنيا بحقيقة أعمالهم وإنما يعلمونها يومئذ. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} استئناف ابتدائي لأن هذا الاعتذار ليس قاصرًا على الذين يستأذنون في التخلف فإن الإذن لهم يُغنيهم عن التبرؤ بالحلف الكاذب، فضمير {يعتذرون} عائد إلى أقرب معاد وهو قوله: {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} [التوبة: 90] فإنهم فريق من المنافقين فهم الذين اعتذروا بعد رجوع الناس من غزوة تبوك وجعل المسند فعلًا مضارعًا لإفادة التجدد والتكرير.
و{إذا} هنا مستعملة للزمان الماضي لأن السورة نزلت بعد القفول من غزوة تبوك وجعل الرجوع إلى المنافقين لأنهم المقصود من الخبر عند الرجوع.
والخطاب للمسلمين لأن المنافقين يقصدون بأعذارهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويعيدونها مع جماعات المسلمين.
والنهي في قوله: {لا تعتذروا} مستعمل في التأييس.
وجملة: {لن نؤمن} في موضع التعليل للنهي عن الاعتذار لعدم جدوى الاعتذار، يقال: آمن له إذا صدقه.
وقد تقدم في هذه السورة (61) قوله تعالى: {ويؤمن للمؤمنين}
وجملة: {قد نبأنا الله من أخباركم} تعليل لنفي تصديقهم، أي قد نبأنا الله من أخباركم بما يقتضي تكذيبكم، فالإبهام في المفعول الثاني لـ {نبأنا} الساد مسد مفعولين تعويل على أن المقام يبينه.
و{مِن} اسم بمعنى بعض، أو هي صفة لمحذوف تقديره: قد نبأنا الله اليقين من أخباركم.
وجملة: {وسيرى الله عملكم} عطف على جملة {لا تعتذروا}، أي لا فائدة في اعتذاركم فإن خشيتم المؤاخذة فاعملوا الخيرَ للمستقبل فسيرى الله عملكم ورسوله إن أحسنتم؛ فالمقصود فتح باب التوبة لهم، والتنبيه إلى المكنة من استدراك أمرهم.
وفي ذلك تهديد بالوعيد إن لم يتوبوا.
فالإخبار برُؤية الله ورسوله عملهم في المستقبل مستعمل في الكناية عن الترغيب في العمل الصالح، والترهيب من الدوام على حالهم.
والمراد: تمكنهم من إصلاح ظاهر أعمالهم، ولذلك أردف بقوله: {ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة}، أي تصيرون بعد الموت إلى الله.
فالرد بمعنى الإرجاع، كما في قوله تعالى: {ثم ردّوا إلى الله مولاهم الحق} في سورة الأنعام (62).
والرد: الإرجاع.
والمراد به هنا مصير النفوس إلى عالم الخلد الذي لا تصرف فيه لغير الله ولو في ظاهر الأمر.
ولما كانت النفوس من خلق الله وقد أنزلها إلى عالم الفناء الدنيوي فاستقلت بأعمالها مدة العمر كان مصيرها بعد الموت أو عند البعث إلى تصرف الله فيها شبيهًا برد شيء إلى مقره أو إرجاعه إلى مالكه.
والغيب: ما غاب عن علم الناس.
والشهادة: المشاهدة.
واللام في {الغيب} و{الشهادة} للاستغراق، أي كل غيب وكل شهادة.
والعدول عن أن يقال: لم تردون إليه، أي إلى الله، لما في الإظهار من التنبيه على أنه لا يعزب عنه شيء من أعمالهم، زيادة في الترغيب والترهيب ليعلموا أنه لا يخفى على الله شيء.
والإنباء: الإخبار.
وما كنتم تعملون: علم كل عمل عملوه.
واستعمل {فينبئكم بما كنتم تعملون} في لازم معناه، وهو المجازاة على كل ما عملوه، أي فتجدونه عالمًا بكل ما عملتموه.
وهو كناية؛ لأن ذكر المجازاة في مقام الإجرام والجناية لازم لعموم علم مَلك يوم الدين بكل ما عملوه. اهـ.